كأن قوى خفية تجذبني إلى تلك اللوحات ، أقرأ سطورها وبين السطور بسرعة ومهارة دون أن أبذل في ذلك جهدا يذكر ،كل إطار يحكي لي حكايته ولا يأتمن عليها سواي
في الصورة ... كانوا يجلسون على مقاعد تراثية الشكل بهت لونها الذهبي لكنها مازالت محتفظة بقيمتها ورائحة الماضي التي تعطر كل الأنوف بالحنين
تلك كانت أول مرة أراهم دون أن أكون في وسطهم ، الآن يمكنني أن أراهم بوضوح ، أراهم جميعا في وقت واحد دون تشويش
صاحب الشقة .. رجل في الثلاثين من عمره ، متوسط الطول ، يلبس عباءة بنية اللون تعطيه مظهر "ذوي الأملاك" الذين كان يوما واحدا منهم .
لا يمكن أن تتخيل قدرته على التفرع إلى سبعة موضوعات مختلفة من موضوع واحد يحكيها كلها بأحداثها وأدق تفاصيلها وتفاصيل الأحداث والظروف المجاورة لها دون أن ينسى ما كان الموضوع الأصلي الذي جره لكل تلك الحكايا
عندما كنت معهم كان يصعب علي أن أفهمه ، تتشتت أفكاري مع تشتت موضوعاته وتتبعثر مع زيادة التفاصيل حتى لا تعود الخيوط تجتمع لتكون نسيجا واحدا ،
تختلف الرؤية كثيرا الآن فأنا أعرف أين بدأ
تختلف الرؤية كثيرا الآن فأنا أعرف أين بدأ
كان يتحدث عن المشاجرة التي حدثت بين أخته وزوجها فقاده ذلك إلى الحديث عن مشاجرة كان قد خاضها مع أحد جيرانه وأدت به إلى القسم ، فحكى ما رآه في القسم من مشكلات بين أزواج وزوجات وقص عليهم حكاية الرجل الذي طلق امرأته ثلاث مرات قبل أن يتم العقد وذهب يبحث عن حل شرعي للمسألة فأقنعه صديقه بأن يتزوجها "له" يومين ويطلقها لكنه عندما عرف أن الطلاق لم يكن واقعا من الأساس لأنها لم تكن زوجته ليطلقها ضرب صديقه هذا (علقة موت) ليطلقها .. وكيف أنه بعد ما رآه في القسم لم يعد يريد أن يدخله حتى لو كان صاحب حق ... وكيف أنهى خلافه مع جاره وتصالح معه لأن الدنيا "لا تسوى" وأن الخلافات مهما كانت فهي لا تستحق وأنهى جولته القصصية بنصيحة لزوج أخته بأن (يكبر عقله) ولا (يكبر الموضوع)
غريبة قدرته على أن يحتفظ بمسار الأفكار ويعود لنقطة البداية بحرفية عالية دون أن تلحظ أنت أنه حكى لك قصصا تفوق مسلسلات رمضان في عدد حلقاتها ..
في مواجهته تماما كانت تجلس أخته متأملة حوض السمك الذي كان بجوارها ، غير مبالية بما يقوله أخوها أو زوجها فهي تعرف نهاية الجلسة : كلمتي صلح تقوم بعدهما بتقبيل رأس زوجها ويقبل هو رأسها وتتردد عبارة "صافي يا لبن" عدة مرات قبل أن يأخذها ويعودان معا إلى البيت ، لم يسترع انتباهها غير تلك السمكات الجميلة الملونة ، التي حكم عليها جمالها بأن تبقى حبيسة حوض زجاجي بعيدا عن موطنها الأصلي
كانت شابة جميلة تحمل في عينيها الكثير من الغموض والشجن ، لم تكن سعيدة كما كان يبدو عليها بل كانت تحاول أن تظهر - ولو لنفسها- أنها سعيدة
"وحيدة" .. كلمة تصفها ببراعة ؛ فلم يكن أحد إلى جوارها حتى زوجها الذي كان يكبرها بعشرة أعوام كاملة ، كيف رضيت أن أتزوج به ! أين كان عقلي وقتها ؟ ... لو لم أتزوجه لكنت الآن حبيسة جدران هذا البيت تماما كالسمكات الملونة إلى جواري ، لكنني اخترت زنزانة أرحب ، زنزانة اخترت كل أثاثها بنفسي ، ولونت جدرانها على ذوقي ، وأملك - أو أحاول أن أملك - مفتاحها ، مع سجان يحبني ..أعرف أنه يحبني ولكن حبه عبء أحمله فوق رأسي وأتمنى أن يريحني منه ، عائلتي لن تقبل الطلاق تحت أي ظرف ، وحياتي "السعيدة" ستقف حاجزا يدعم رفضهم ويزيده صلابة ، أنا لست ضعيفة لكن أقوى الجيوش يهدها طول الحرب وأنا عشت في حرب أطول من حرب البسوس ، لم أعد أحتمل المزيد ، ما به زوجي ! أليس (أرحم) من أبي !
كفت عن الاسترسال في أفكارها أكثر من ذلك عندما انتزعها من وسط أسئلتها سؤال ألفته منذ ولادة ابنتها الكبرى ولا يزال يتردد حتى بعد أن أصبح عمر أصغر بناتها أربع سنوات ، " متى تأتينا بـ (ولي العهد) ؟ ... هي لا تعرف أي عهد هذا الذي يريدون له وليا ، ومن أين يأتون بذاك الـ(ولي) الذي تزوج أخوها من أجله عدة مرات فأصبح عنده ست بنات من زوجاته الثلاث ، لكنها سئمت الحديث ، ملت من محاولات شرح الموضوع وسرد الحقائق وإيراد الشواهد لأنهم لا يقتنعون أبدا إلا بما في رؤوسهم ، ردت بإجابتها المعهود بابتسامة مصطنعة " ربنا يكرم "